المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجنة المقفله


الصاعقه
12-19-2018, 11:55 PM
لم يجلب الموقع الجغرافي البديع لأي منطقة في العالم، سوى الانتعاش والازدهار والتقدم، بل تصير قبلة للسياح والزوار، إلا قرية ارطاس الفلسطينية، الواقعة جنوبي بيت لحم، فقد كانت موعودة بالدماء والحزن، والمذابح.
فالقرية الكنعانية القديمة، التي هام بها الفرنجة حبا، وكتبوا فيها القصائد وسطروا الكتب، تعرضت بسبب موقعها «العبقري» الى «سبع مذابح» على أيدي الغزاة، وقبائل وسكان بلدات فلسطينية أخرى. فهي تبعد اقل من مسافة كيلو متر واحد عن بيت لحم، وتنتشر مساكنها على الجانب الشمالي لوادي خصب، يروى من عين القرية الشهيرة، وعيون أخرى، وهو أحد أودية الهضبة الكنعانية الوسطى الواقعة غرب البحر الميت، وشرق السهل الساحلي للبحر الأبيض المتوسط.
وجدت ارطاس نفسها في موقع تحسد عليه، تسيطر على قنوات المياه التي تزود مدينة القدس بالمياه، ومن كان يفكر باحتلال القدس، عليه أولا أن يعرف كيف يسيطر على هذه القرية الصغيرة. ومن الواضح أن اختيار سكان ارطاس، لموقع قريتهم لم يكن اعتباطا، ففيها كل الركائز الأساسية للقرى الكنعانية، مثل توفر العامل الدفاعي الأمني للصمود أمام بطش أي غاز مسلح، وكذلك العامل الاقتصادي، وكثرة الينابيع فيها جعلت من واديها، جنة خضراء.
ومن مميزات موقعها، وقوعها على الطريق الجبلي الذي يربط بين جنوبي فلسطين وشمالها، من غزة إلى القدس، مرورا بالقرية الصغيرة.
وأرطاس، كلمة يونانية تعني «الجنة المقفلة»، وذكر المستشرق فيليب بالدنسبيرجر الذي سكن القرية عام 1850، في بيت بناه له ولأسرته، بان القرية عرفت خلال الاحتلال الصليبي «1099 ـ 1187) بالجنة المقفلة. وارتبطت ارطاس، بما يعرف باسم برك سليمان، وهي ثلاث برك ضخمة، بنى اثنتين منهما الملك هيرودس قبل اكثر من ألفي عام، أما البركة الثالثة فبنيت في زمن المماليك المتأخر، وكانت وظيفة هذه البرك الضخمة تجميع المياه فيها، لإسالتها، عبر القنوات إلى القدس.
وعرفت هذه البرك، لدى المؤرخين الإسلاميين باسم برك المرجيع، وفي تفسير ذلك، ذكر مجير الدين الحنبلي صاحب «الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل)، انه عندما فقد اخوة النبي يوسف، أخاهم، وجدوه عند البرك وأرجعوه فسميت ببرك المرجيع.
وارتبطت ارطاس بنهضة الحكم الروماني في فلسطين، ففي عام 35 قبل الميلاد، بنى الحاكم الروماني بيلاطس، قناة حجرية وأسال فيها المياه من برك سليمان، حتى القدس، أما هيرودس فبنى في وادي ارطاس حدائقا، وحمامات، وقصورا، وأقنية، وما زالت بقايا القناة التي تنقل المياه من عين ارطاس، إلى قلعة هيروديوم، تظهر في عدة أماكن، ويبلغ طولها اكثر من 8 كلم. وبنى الإمبراطور الروماني سيفيريوس «193 ـ 211م) قناة أخرى لنقل المياه إلى القدس، من وادي البيار، جنوبي ارطاس، إلى برك سليمان، ومنها إلى القدس.
وعرفت ارطاس، الإسلام، منذ دخلت الجيوش الإسلامية فلسطين عام 637م، تحت إمرة عمرو بن العاص، وتشير بعض المصادر انه بنى أول مسجد في القرية، وهو المسجد الذي عرف باسم مسجد عمر، تيمنا باسم الخليفة عمر بن الخطاب الذي تسلم مفاتيح القدس في العام التالي.
ولكن من الصعب إثبات السنة التي بني فيها المسجد، لأنه ما يظهر الآن مسجدا حديثا أقيم على أنقاض مسجد قديم تم هدمه، ولم يبق منه ما يمكن أن يؤكد تاريخ بنائه، وعلى جداره الشرقي يوجد نقش مثير يعود إلى عام 1706م يشير إلى طاحونة غلال أنشئت زمن الملك الصالح، ونقل النقش في وقت ما إلى مكانه الآن.
وترتبط أسماء كثير من المواقع في ارطاس، بأسماء القبائل العربية، المرتبطة بالهجرة من بلاد نجد، عندما حل القحط بها، إلى بلاد الشام وشمال أفريقيا، وما تزال بعض جبال وشعاب ومغار ارطاس تعرف بأسماء قادة القبائل التي وصلتها وسكنتها أو مرت بها، مثل «قرنة ذياب»، و«جبل أبو زيد»، و«شعب حسنات»، و«شعب أبو زيد»، و«شعب سلطان»، و«شعب سلمان»، و«مغارة خالد»، وهي أسماء تطلق لغاية اليوم على هذه الأماكن وتعرف بها، ومعظم هذه الأسماء ترجع إلى قادة قبيلة بين هلال، الذي من المحتمل انهم مروا بالقرية أو سكنوها فترة من الزمن.
وفي فترة الحكم الإسلامي لفلسطين، لعبت مياه ارطاس دورا مهما، ويمكن هنا الإشارة إلى ما كتبه السيد بوذري، مدير مصلحة المياه في حكومة الانتداب، في تقرير عام 1938 «إن مشروع الماء في عهد المسلمين كان متقنا إلى درجة أن الصليبيين عندما حاصروا القدس، قاسوا اشد العذاب من جراء العطش وقلة الماء، بينما كان سكان القدس أنفسهم في مأمن من هذه الناحية، وكانت لديهم في المدينة مقادير وافرة من المياه، وقد أعار المسلمون المسالة جل اهتمامهم، فعمروا القنوات وأولوها أهمية خاصة، وحيث كان لمياه ارطاس وبرك سليمان أهمية كبيرة في تزويد مدينة القدس بالمياه، لذا كان لأهل ارطاس دورا كبيرا في حماية المياه والقنوات التي توصلها إلى القدس».
واستدار الصليبيون، واحتلوا القرية، واستولوا على قنوات المياه، وبقوا فيها سنوات طويلة، حتى هزم القائد صلاح الدين الأيوبي، أخر ملوك الصليبيين واستطاع السيطرة على أرطاس، من اجل حماية مصادر المياه الموجودة فيها، ودفع سكان القرية ثمن احتلالها من قبل الصليبيين، وتحريرها منهم.
وتشير التقاليد المتبعة في ارطاس، انه وفي الماضي البعيد، اعتاد فلاحو القرية حماية القنوات ومصادر المياه التي تضخ إلى القدس، مقابل إعفائهم من دفع الضرائب، وامتيازات أخرى وصلت لحد تكليفهم جباية الضرائب من القرى والمناطق التي حولها، وكانت ارطاس تعرف حينها براس العرقوب، وهي مجموعة من القرى تضم 24 قرية.
ويوجد ما يؤكد بأن ارطاس، وصلت أوج قوتها في عهد سلاطين المماليك «1187 ـ 1517م)، حيث أصبحت تشكل مركزا تجاريا وقضائيا، وانتشرت فيها طواحين الغلال التي كانت تعمل بقوة مياه ارطاس، ويوجد من هذه الفترة بقايا لقاعة محكمة وسجن معروف الان باسم «الحبس» ولكن أصحاب الأرض التي يقع فيها هذا السجن أغلقوه وشيدوا منازل حديثة بجانبه، بينما شارع القرية الرئيس يمر فوقه.


يتبع

الصاعقه
12-19-2018, 11:56 PM
خلال هذه الفترة اطلع زعماء ارطاس بدور من يقيمون العدل في القرى التابعة لهم، ولكن لا أحد يعرف إلى أي مدى يمكن اختبار عدلهم، خصوصا وان القرية تعرضت لمذبحة، من قبل أهالي القرى الأخرى، خلال هذه الفترة، التي شهدت أيضا ترميم وبناء القنوات المائية التي تزود المياه بالقدس، على يد بعض السلاطين مثل آ«الظاهر خوشقدمآ»، وآ«الظاهر بلبايآ»، وآ«الظاهر تمريغاآ».
وعندما استطاع العثمانيون السيطرة على جند فلسطين، اهتموا مثل من سبقهم بأرطاس، فرمم السلطان سليمان القانوني برك سليمان الثلاث، وعمر قنوات المياه وحافظ عليها. وعندما اختل الأمن، في فترة لاحقة، نتيجة للظلم والفقر، انتشر الأشقياء وقطاع الطرق الذين خربوا الينابيع ومجاري المياه، فذاق أهل القدس الأمرين، مما حدا بالسلطان العثماني مراد الرابع، لبناء قلعة عرفت باسمه لحماية البرك والقنوات، وأنشأ داخلها مسجدا وخمسين غرفة ليسكنها الجنود الذين سيروا الدوريات لمنع قطاع الطريق من الاعتداء على القنوات التي يسيل فيها الماء نحو المدينة المقدسة.
وفي هذه الفترة ما بين آ«1750 ـ 1834مآ» تعرض أهل ارطاس لمذابح مختلفة، اضطروا على أثرها لترك القرية، والأسباب مختلفة منها ما يتعلق بدورهم في جمع الضرائب، أو احتلال القرية من قبل الغزاة، ولتورط السكان في الصراع التقليدي آ«قيس ويمنآ»، وإذا كانت بعض هذه المذابح التي يقول السكان أن عددها سبعة، لا تتوفر معلومات دقيقة عنها، وتختلط المرويات عنها بالحقائق والأساطير المحلية، إلا انه يمكن الإشارة بكثير من الثقة إلى آخر مذبحة حدثت في القرية، على يد إبراهيم باشا، ابن والي مصر الطموح محمد علي باشا، حيث دمر إبراهيم باشا بيوت القرية، وجعلها حطاما بعد مقتل وجرح 800 ضابط وجندي من قواته على أيدي الثوار، عندما كانوا يستريحون ويسقون خيولهم من عين ارطاس، وفي مثل هذه الحالات من عدم الاستقرار كان السكان يلجاون إلى القرى المجاورة وكهوف الجبال، وقلعة مراد.
وفي أثناء الحكم العثماني المتأخر، عام 1901م، استبدلت قناة المياه الفخارية التي مدها العثمانيون من برك سليمان إلى القدس، بقناة معدنية، بإشراف مهندس يوناني يدعى أفرنقاه، والتي ظلت تزود القدس بالمياه حتى عام 1948، ووقوع النكبة الفلسطينية.
وعندما احتل البريطانيون فلسطين، رابطت القوات البريطانية في قلعة مراد، وشرعت في بناء محطة فوق مجرى عين ارطاس، وأنهت العمل عام 1922، لتبدأ ضخ المياه إلى القدس، غير آبهين بأرزاق السكان، ولم يتركوا لهم مياها للشرب، أو للزراعة، أو للاستخدامات المنزلية المختلفة.
ووجد السكان طريقة، لرفع دعوى ضد حكومة الانتداب ووكلوا في قضيتهم أربعة محامين فلسطينيين، الذين كلفوا المحامي البريطاني المقيم في لندن السير ولسون، فكسب الدعوى عن طريق حيلة، حيث ذهب إلى أحد أصدقائه وطلب منه أن يذهب يوم النظر في الدعوى إلى المحكمة ويطلب تطبيق القانون على المحامي مدعيا بأنه اغتصب زوجته منه، ويطالب بإعادتها إليه، ففعل هذا الصديق ذلك، فأمر القاضي بتطبيق العدالة ضد المحامي وإعادة الزوجة إلى زوجها، وعندها وقف المحامي صارخا: كيف لكم وانتم تغتصبون مياه سكان أرطاس، ان تطالبون بإعادة زوجة هذا الشخص إليه؟ وكسب المحامي القضية لصالح سكان أرطاس. واستأنفت حكومة الانتداب قرار المحكمة إلى مجلس الملك الخاص، الذي رد الاستئناف، وقرر أن مياه أرطاس هي ملك لأهل القرية، وصدر قرار مجلس الملك الخاص تحت رقم 98 ـ 1925. وقبل هذه القضية فان ارطاس حازت شهرة عالمية، بسبب عبقرية المكان، التي ساهمت ليس فقط إعطاء دور تاريخي لهذه القرية الصغيرة في أمن القدس المائي، ولكنها شكلت عامل جذب للمستشرقين والبعثات التبشيرية، والذي ساهم بعضهم في تدوين تاريخ أرطاس بشكل علمي وترك مجموعة تضم مئات الصور لها ولمعاملها وناسها، وتدوين حكاياتها الشعبية، وإحصاء نباتاتها، وكتب فيها عدد من الشعراء الإيطاليين قصائد مؤثرة.
واشترى في القرية، العديد من الأوروبيين، أراض، وبيوتا أمثال هنري بالدنسبيرغر، وبيتر ميشولام، والأمير هنري ابن الملكة فكتوريا الذي ابتاع أراض في القرية عام 1850.
واستوطن فيها العديد من العلماء الفرنسيين والألمان والإنجليز وعاشوا فيها سنوات عديدة، وادخلوا إليها أنواعا نادرة من الفواكه آنذاك مثل الدراق الأميركي، وما تزال بعض المناطق في القرية تعرف بأسمائهم.
ولكن أهم هؤلاء على الإطلاق هي الدكتور الفنلندية هيلما غرانفكست، التي يمكن أن نطلق عليها آ«درويشة ارطاس المتيمة)، فهي عاشت في القرية في السنوات آ«1925 ـ 1931) وعادت لفترة أخرى لاحقا، وبذلت جهودا للحصول على منحة أخرى للعودة إلى القرية، ولكنها لم توفق.
من الصعب وصف الحب الذي حملته هيلما لسكان القرية الذين أطلقوا عليها اسم آ«حليمةآ»، وما زال بعض السكان يذكرونها حتى الآن بهذا الاسم. تعلمت هيلما اللغة العربية وتحدثت بلهجة أهالي ارطاس، وكتبت خمسة كتب عن حياة الإنسان الفلسطيني، متخذة من إنسان ارطاس نموذجا، وحققت شهرة عالمية، وعلى دربها جاء وما يزال يجيء باحثون وباحثات إلى القرية، ومن بينهم من حاول استكمال عمل هيلما مثل الباحثة البريطانية شيلا واير، التي زارت القرية عامي 1978 و1979، أو مواطنتها كارين سيغر التي أعدت كتابا عن القرية اعتمد أساسا على مجموعة الصور النادرة والمثيرة التي التقطتها هيلما، وكتبت عنها نصوصا، بالإضافة إلى علميتها، فهي غاية في العذوبة والشاعرية. لقد أصبحت هيلما أو حليمة، أسطورة قرية ارطاس، وكان لوجود لويزا بالدنسبيرغر، في القرية آنذاك، دورا في تشجع هيلما للإقامة فيها وإعداد أبحاثها الميدانية. ولويزا، هي ابنة هنري بالدنسبيرغر، وشقيقة فيليب بالدنسبيرغر صاحب كتاب آ«الشرق الذي لا يتزحزحآ» الذي نشره عام 1913، وفيه كتب نصوصا قل نظيرها من مستشرق عن قرية فلسطينية ومما كتبه آ«خلال أحلام الربيع طيف واحد يسيطر علي عندما يبدا شهر الربيع، انه ذكرى ارطاس، ذكرى قرية صغيرة تقع على بعد مسافة قليلة من بيت لحم، تبدو وكأنها جافة قاحلة، لكنها في الحقيقة مكان أرضه الكلسية تجعله ملائما جدا لإنتاج الفواكه اللذيذة، وفي واديها الصغير المحاط يمينا ويسارا بمنحدرات وعرة، ويسقى بجدول دائم الجريان، هناك المشمش اللذيذ والخوخ والأجاص والتين وغيرها تنمو، حيث عشت وأنا صغير مع اخوتي في بيت منبسط السطح وكالقلعة على هضبة فوق مزارعنا في ارطاسآ».

% م %